[ تحدثت في الحلقتين السابقتين عن ألعابنا. أما في هذه الحلقة الثالثة فسأعرض إلى علاقاتنا بالطعام والمأكولات والغلال.]
النص الثالث

مصروفنا اليومي آنذاك في بداية طفولتنا لا يتجاوز عشرين مليما وأحيانا لا نحصل على مليم واحد. ولكن لم تكن لنا مشكلة في الحصول على بعض المأكولات الخاصة بنا… لا نتناول المشروبات الغازية إلا في المناسبات والأعياد، ولا نعرف للمرطبات طعما إلا نادرا… كنا نذهب إلى الحقول ونبحث عن نبتة لذيذة جدا تسمى الحرشاي، فنقوم باقتلاعها وقص جذعها الأخضر ونزع القشرة الخارجية عنه ثم نبادر إلى أكله وهو كما ذكرت غاية في اللذة… أيضا نجمع قرون الحلبة الخضراء ونقوم بتناول الحبوب الخضراء الصغيرة الموجودة داخلها… نأكل الخس والجزر والبسباس بعد تنظيفها جيدا ونجد في ذلك متعة لا تضاهيها متعة… نخرج أيضا إلى الحقول القريبة من البلدة ونجني التوت الأسود والأبيض والعربي، فنأكل ما نأكل هناك دون خشية التلوث الطبيعي أو الكيميائي، فقد كان المنتج آنذاك بيولوجيا مائة بالمائة، ونحن لم نكن ندري وقتئذ أنه سيأتي يوم يكون فيه هذا المنتج عملة صعبة لا يتوفر إلا نادرا و”بسيدي وسيدك “… وبعد أن نشبع من تناول التوت نملأ الأواني التي حملناها معنا ونعود بها إلى بيوتنا…



كما نرافق آباءنا في جني الغلال مثل العوينة والبيثر (نوع من التين كبير الحجم) والإجاص والتفاح والعنب والرمان والبرتقال والبوصاع، ونركب الأحمرة والبغال ونكون فخورين جدا إذا كــُلفنا بقيادتها… نسهم ونحن صغار في شق حبات العنب إلى جزأين لتـُـجفف ويقع الحصول على زبيب من نوع الرفيع دون النوى يسمى “الزبيب المشرح”، ونسهم أيضا في شق حبات التين إلى نصفين حتى تجفف ونحصل على الشريحة التي تـُخزن مع زيت الزيتون في قوارير بلورية. وكم نشعر بالسعادة إذا خصصت لنا أمهاتنا قوارير صغيرة تـُملأ بالزبيب مع شيء من اللوز المجفف والحمص وقطع الحلوى…




إذا أصابنا الجوع مساء ونحن في الشارع ننتظر حتى تكمل جداتنا وأمهاتنا طبخ الخبز في الكوشة (فرن تقليدي كروي الشكل به ثقبان أحدهما من الأعلى لتصعد منه النار والآخر من الأمام ليوضع منه الخبز داخل الفرن بعد إشعال الحطب والحصول على فحم مميز يسمى فحم الدار يستغل في ما بعد في طبخ الطعام، ويعد هذا قمة في اقتصاد الطاقة، ومازالت الكوشة مستعملة إلى الآن وتكون في مكان خاص يُسمى “الكشينة”،كما تستعمل في أشياء أخرى مثل تجفيف الفلفل الأحمـــر وطبخ سمــــك السرديـــــن. وتجفيف الزبيب واللوز وشي الحمص والفول وتسخين الماء في “النحاسة”…) . نأخذ الخبزة (قطرها في حدود 20 سنتيمترا وســُمكها يتجاوز أحيانا 5 سنتيمترات) وهي مازالت ساخنة، ثم نقتطع منها جزءا كبيرا ونشقه على طريقة فريكساي اليوم ولكن ما أبعد هذه عن تلك، ونضع فيها قليلا من الفلفل الأحمر المهرّس في مهراس فخاري بعود من الخشب، ونضيف إلى الفلفل قطرات من زيت الزيتون، ثم نتناول كسرة الخبز بشراهة لا مثيل لها. وإلى يومنا هذا لم تقدر أية أكلة على تعويض تلك اللذة وعلى سد الفراغ التي تركته كسرة الخبز الساخنة “المصبّغة بالفلفل وزيت الزيتون”، فلا الفريكساي ولا البيتزا ولا الهامبورغر ولا الشوارما ولا غيرها من الأطعمة الحديثة الفاخرة قدرت على أن تنسينا تلك اللمجة. والطريف أن إذا خرج الواحد منا بقطعة الخبز تلك تسمع بقية الأطفال ينادونه من بعيد قائلين له: “خلّي باي (بتفخيم الباء)” أي اترك لنا نصيبا مما تأكل، وهو يسرع في الأكل حتى لا يبقى من الكسرة إلا القليل….




في شهر رمضان المعظم كانت لنا طقوس خاصة، فنلتقي في المساء قبل أذان المغرب فنجتمع في الحي وننتظر الأذان في جو من المرح وسرد الطرائف والنكت. وحين يبدأ الأذان لا تسمع إلا عبارة واحدة تنطلق من الأفواه الصغيرة “أذّن… أذّن… أذّااااااان” (مع إطالة حركة الذال). ونسارع إلى الالتحاق ببيوتنا فنشرع في الإفطار، ويرافقنا عبر المذياع الكروان عادل يوسف في”رمضان ملء قلوبنا” والمرحوم عزالدين بريكة في سلسلة “شناب” الذي يضحكنا بمغامراته ويبعث في أنفسنا البهجة والفرح، وتسمعنا نتبارى في تقليده في تلك العبارة الشهيرة التي يرددها “أتــّــك … أتــّــك…” !!




ـ يــُــتــــــبـــــــع ـ
Yassine Oueslati

Yassine is an Arabic literature teacher. He writes about various topics related to lifestyle, education, politics...