هذه سلسلة نصوص كتبها أستاذي الرائع، ياسين الوسلاتي،عن ذكريات الطفولة المتصلة بالحياة في مدينة رفراف، إحدى أجمل المدن التونسية..

[ في الحلقة الأولى تحدثت عن بعض الألعاب التي كنا نمارسها في طفولتنا، وأواصل في هذه الحلقة الثانية ذكر ألعاب أخرى…]

النص الثاني

كنا شغوفين بممارسة كرة القدم… نشترك في شراء كرة بلاستيكية ونكوّن مجموعات ونقيم دورات حماسية جدا، وتُــطلق على تلك المجموعات أسماء النوادي كالترجي والإفريقي والنادي الرياضي البنزرتي، ونتسمّى بأسماء اللاعبين المشهورين كعلي رتيمة وعلي الكعبي وطارق وتميم وعمر الجبالي وغميض والمرحوم محمد علي عقيد وكمال الشبلي وخالد القاسمي وعتوقة وبكاو. أما الملعب الذي نمارس فيه لعبة كرة القدم فهو عبارة عن ساحة صغير ة وسط الحي لا يتجاوز عرضها ستة أمتار وطولها عشرة أمتار ونظل لساعات نلعب دون كلل ولا ملل…

كان لدينا خيال واسع جدا، فنبتكر ألعابا تكون قريبة من واقعنا نقلد فيها الكبار، كأن نجمع الأوراق التي تـُلف بها قطع الحلوى ونعتبرها من الأوراق المالية ذات خمسمائة مليم أو دينار. أما الأوراق المالية ذات خمسة أو عشرة دنانير فكانت علب السجائر الفارغة بعد أن نجمعها ونفككها حتى تصبح أوراقا، ونعتبر أوراق علب السجائر المحلية عملة محلية، ونعتبر علب السجائر الأجنبية عملة أجنبية، ثم نعتمدها في معاملات تجارية مثل شراء الأبقار التي هي في الحقيقة مقابض الجرار و”القلال” المكسورة… كنا ننتقل من مكان إلى آخر لتــقليب الأبقار وشرائها ونقلها من مرابضها إلى إسطبلات وهمية، وكنا نقلد تجار الأبقار في حركاتهم وسكناتهم بالتفصيل وبكل دقة… يُعدّ مقبض الجرة الكبيرة بقرة حلوبا، أما مقبض القلة الكبيرة فهو ثور، وأما مقبض القلة الصغيرة أو “البوقال” (آنية من الفخار أصغر من القلة يوضع فيها الماء) فهو عجل صغير….

صنعنا من العلب الصفيحية الجرافات والسيارات والشاحنات والقطارات والعربات المجرورة. وبنينا البيوت الصغيرة مقلدين في ذلك البنائين، وزودناها بالتيار الكهربائي باعتماد البطاريات الصغيرة، وأنشأنا خرائط لتونس وإفريقيا بالجبس ولونّاها بألوان زاهية…

قبل حلول فصل الصيف فصل السباحة نستعد لهذا الحدث استعدادا جديا… نصنع بأنفسنا الصنارات لصيد السمك… نشتري خيط الحرير والشصوص، ثم نجمع قطع الرصاص التي يقع إتلافها بعد إصلاح الحنفيات… نرقق قطع الرصاص بطرقها حتى تصبح رقيقة جدا في سُمك الورقة، ثم نجعلها أجزاء صغيرة ونضعها على النار في علبة معدنية صغيرة حتى تذوب وتصير سائلا، وقبل ذلك نكون قد أعددنا الأشكال التي نريدها وذلك عبر حفر الأرقام أو الحروف الأولى من أسمائنا بالعربية وبالفرنسية على “ظلف الهندي”، وإثر ذلك نسكب في الأشكال المحفورة سائل الرصاص، فنحصل على قطع مختلفة الأحجام والأشكال، فنثــقبها ونربطها بخيط الصنارة…

نتوجه إلى البحر، ويمضي بعضنا مدة زمنية هناك… أذكر أني أستيقظ باكرا قبل طلوع الشمس وأخرج إلى الشاطئ خلسة، أما الغاية فهي مشاهدة الشمس وهي تشرق وتظهر شيئا فشيئا قرصا أحمر من وراء تلك الصخرة الصامدة “القمنارية”(موجودة بشاطئ رفراف، ويبدو أنها تحريف لعبارة القمة النارية) أو “البيلاو”… إنه مشهد لرائع ولا في الأحلام، أظل أنظر إليها ولا أمل من ذلك أبدا… تلك الصخرة صارت جزءا منا ولا يمكن أن نتصور البحر دونها… كنت أرى أحيانا في منامي أن جانبا من تلك الصخرة قد تحطم وغمرتها المياه، فأستيقظ فزعا وكأن شيئا ما سُلب من روحي…

نخرج في الصباح في جولة عبر الشاطئ، ونسير لعدة كيلومترات لنصطاد السمك بالصنانير التي أنشأناها… كنا نتسابق أيّ منا يصطاد أكثر سمكا كمية و نوعا… نُوفق في اصطياد كميات كبيرة من السمك من المناني إلى المنكوس إلى الكحلاي إلى القرنيط، ونعود مظفرين ونقدم محصولنا لأمهاتنا ليطبخنه، ولكننا لا نأكل منه إلا القليل كأننا نشبع منه بمشاهدته ورؤيته فقط … نمضي بقية اليوم في السباحة واللعب بالكرة وإقامة مسابقات في العدو على الشاطئ ذي الرمال الذهبية الغزيرة قبل أن تدمره اليد البشرية بالبناء الفوضوي… أما في الليل فنجمع كوما من الحطب ونشعله في مكان قريب من الماء ونظل ندور ونقفز حول النار كأننا من عبدتها. وكم نشعر بالمتعة ونحن نحس بأن اللهب يلفح وجوهنا وأن عيوننا تدمع بفعل الدخان المتصاعد، لم أدر إلى اليوم لماذا كل تلك الرغبة التي تنتابنا لإشعال النار..؟؟!! إنه لأمر غريب ولا شك….

ـ يــُــتــــــبـــــــع ـ

Yassine Oueslati

Yassine is an Arabic literature teacher. He writes about various topics related to lifestyle, education, politics...

Leave a comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *