النص الأول


كنا مجموعة من الأصدقاء نتجاذب أطراف الحديث وننتقل من موضوع إلى آخر حتى انتهى بنا المطاف إلى أن يتذكر كل واحد منا خصائص الحياة في طفولتنا مع مقارنتها ضمنيا بما هي عليه حياتنا اليوم من مميزات…
أجمعنا كلنا على أننا كنا في طفولتنا سعداء كأجمل ما تكون السعادة على الرغم من شظف العيش وصعوبة الحياة… لا نشعر بالقلق ولا بالضجر ولا بالملل ولا بالرتابة والروتين لأن حياتنا كانت ثرية ومتنوعة…
نحرص دوما على أن نكون سعداء ونخلق بإصرار واضح الأجواء المناسبة لتحقيق هذا الهدف ذي الأولوية المطلقة في حياتنا…

كانت ألعابنا بسيطة جدا لا تحتاج أبدا إلى إمكانيات ولا إلى أموال… نصنع لعبنا بأنفسنا ونحن بارعون في ذلك أيما براعة… نستنبطها من واقعنا الاجتماعي والفلاحي والمعماري… تبعث في نفوسنا الصغيرة النشوة الغامرة والفرحة الدائمة… لا نشتري لعبنا لأننا لسنا قادرين على شرائها ولأنها ليست متوفرة في بلدتنا…

ألعابنا مختلفة وموسمية، فهي مقترنة بالعوامل الطبيعية وبالإطار الذي نمارسها فيه…
هناك موسم الكجات (أو البيس)، فترانا نجمع منها عددا كبيرا مختلف الألوان والأحجام، وتكون بلورية أو خزفية أو معدنية… توفر لنا الكجات أكثر من لعبة ممتعة للغاية تجعلنا لا نشعر بثقل الوقت وهو يمر…


وأيضا موسم “النحلة” (الدوامة والزربوط) التي نشتريها جاهزة مع “القيطن” (وهو الخيط الذي يـُـلفّ حولها حتى تدور على نفسها بسرعة فائقة)، وفقط نغير فيها المسمار بحيث يصبح طويلا وحادا جدا حتى تدور على نفسها أكثر ما يمكن من الوقت، و”النحلة” التي تظل تدور أكثر وقت ممكن نخلع عليه لقب “الزحتة”. ومع النحلة نجد “الزربوط ” الذي ننشئه بأنفسنا من الخشب، فنتفـنّــن في صنعه حجما وشكلا، ونتبارى ونتنافس في ذلك…


وثمّة موسم “الداما” و”الطابوات” (وهي الأغطية المعدنية والبلاستيكية الخاصة بالقوارير نملأها بالطين) ونرسم على الأرض دائرة مرتبطة بطريق ملتوية، وعلى اللاعب أن يمرر تلك “الطابوات” في الطريق الملتوية دون الخروج منها حتى يصل إلى الدائرة ويعود منها مع وجود حواجز في تلك الطريق، وتُمارس هذه اللعبة بالتداول بين لاعبين اثنين ولكل واحد منهما الحق في أن يدفع الغطاء بإصبعين اثنتين ثلاث مرات متتالية، وتتطلب هذه اللعبة الدقة والذكاء والحيلة حتى يكون النجاح حليف من يمارسها…


وهناك موسم “التصاور” (بطاقات صغيرة تحمل صور حيوانات متوحشة وأخرى أليفة)، إذ أن الواحد منا يفتخر بما يملكه من عدد كبير من صور الحيوانات، وتسمى الكمية من تلك الصور “خزيبة” (وهي على ما يبدو تحريف لكلمة خزينة)، وإذا كانت إحدى الصور قديمة ومتآكلة ولونها باهت وفي حالة يرثى لها نطلق عليها اسما غريبا عجيبا طريفا يضحكنا كثيرا وهو “خردة نـنّــش”… وكانت بيننا منافسة حادة، إذ نحرص على جمع أكبر عدد ممكن من الصور النادرة. وكانت هناك مقاييس ومعايير تحدد جودة هذه الصورة أو تلك على نحو الخط الأبيض الدقيق الذي يؤطّر الصورة ومثل نوعية الورق الذي تصنع منه البطاقة، فالصورة الجيدة هي التي يكون لون قفاها أبيض يميل قليلا إلى الصفرة ولا يكون رماديا. وهناك من الأطفال من يبيع الصور النادرة لأترابه بخمسمائة مليم للصورة الواحدة، بينما ثمن الصورة العادية لا يتجاوز عشرة مليمات أو عشرين مليما. وهذا دليل على ولع كثير من الأطفال بجمع الصور النادرة التي يُــطلق عليها شــــعار “ورّيها وخبّيها”. والغريب أن هناك من لا يبيع صوره ولو بمبالغ كبيرة لأنه بدوره شغوف بجمعها وليس مستعدا للتفريط فيها…

ترافق هذه الألعاب أحيانا ممارسات يرفضها أكثرنا، إذ يتحيل البعض على الأطفال ليسلبهم ممتلكاتهم من الكجات والصور كأن يبادر أحدهم إلى وضع كمية من الصلصال في أسفل حذائه، ثم يتوجّه إلى المواقع التي يلعب فيها الأطفال بالكجات، فيدوس على البعض منها، فتلتصق بحذائه وكأن شيئا لم يكن، ثم يبتعد قليلا عن مكان اللعب لينتزع الكجات من الحذاء، أو كأن يمسك بمقص ثم يدخله في جيوب الأطفال ليخرج منها بواسطته الصور دون أن ينتبهوا إلى ذلك. ولئن كنا نرفض مثل هذا التصرف فإننا لا نجرؤ على التصدي لهؤلاء المتحيلين أو إخبار المتضررين بالأمر…

في ذلك الوقت كان القليل منا من يمتلك دراجة، فنلتجئ ـ تعويضا للدراجة المفقودة ـ إلى أن نصنع بأنفسنا “كريطة” صغيرة اعتمادا على ألواح خشبية نحصل عليها من الصناديق التي لم تعد صالحة لنقل البطاطا أو العنب وعلى عجلات معدنية نحصل عليها من أصحاب الشاحنات الصغيرة… كنا نتفنن في صنع الكرارط فنجعل لها مقودا صغيرا نثبّت في أسفله عجلة واحدة، أما في الخلف فنثبـّت عجلتين تكونان أصغر من العجلة الأمامية، وفي ذلك حكمة لأن من يركب الكريطة ينبغي أن يكون مائلا إلى الخلف حتى لا يسقط إلى الأمام باعتبار أنّ في العادة لا تُستعمل الكريطة في الطرقات المنبسطة وإنما في الطرقات المعبدة المنحدرة حتى تسير بسهولة دون أن يحتاج راكبها إلى مساعدة من أحد… نزركش الكرارط التي نصنعها ونزينها، وكل طفل يسعى إلى أن تكون كريطته متميزة عن البقية بألوانها و طريقة صنعها وفي “الأبسيونات” التي تتوفر عليها مثل المنبه والمكبح والعداد الكيلومتري الوهمي والأضواء التي تشتغل بالبطارية الصغيرة. و لكن السلبية الوحيدة لهذه اللعبة أنها تصدر ضجيجا قويا مزعجا كثيرا وموترا للأعصاب على الرغم من أن الضجيج في تلك الفترة كان محدودا جدا…

ـ يــُــتــــــبـــــــع ـ
Yassine Oueslati

Yassine is an Arabic literature teacher. He writes about various topics related to lifestyle, education, politics...